فصل: تفسير الآيات (175- 177):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (175- 177):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}
لما تركوا الهدى وأعرضوا عنه ولازموا الضلالة وتكسبوها مع أن الهدى ممكن لهم ميسر كان ذلك كبيع وشراء، وقد تقدم إيعاب هذا المعنى، ولما كان العذاب تابعاً للضلالة التي اشتروها وكانت المغفرة تابعة للهدى الذي اطرحوه أدخلا في تجوز الشراء.
وقوله تعالى: {فما أصبرهم على النار}، قال جمهور المفسرين: {ما} تعجب، وهو في حيز المخاطبين، أي هم أهل أن تعجبوا منهم، ومما يطول مكثهم في النار، وفي التنزيل، {قتل الإنسان ما أكفره} [عبس: 17]، و{أسمع بهم وأبصر} [مريم: 38]، وبهذا المعنى صدر أبو علي، وقال قتادة والحسن وابن جبير والربيع: أظهر التعجب من صبرهم على النار لما عملوا عمل من وطن نفسه عليها، وتقديره: ما أجرأهم على النار إذ يعملون عملاً يودي إليها، وقيل: {ما} استفهام معناه أي شيء أصبرهم على النار، ذهب إلى ذلك معمر بن المثنى، والأول أظهر، ومعنى {أصبرهم} في اللغة أمرهم بالصبر، ومعناه أيضاً جعلهم ذوي صبر، وكلا المعنيين متجه في الآية على القول بالاستفهام، وذهب المبرد في باب التعجب من المقتضب إلى أن هذه الآية تقرير واستفهام لا تعجب، وأن لفظة {أصبر} بمعنى اضطر وحبس، كما تقول أصبرت زيداً على القتل، ومنه نهي النبي عليه السلام أن يصبر الروح، قال: ومثله قول الشاعر: [السريع]
قُلْتُ لَهَا أصْبُرها دائباً ** أَمْثَالُ بِسْطَامِ بِنِ قَيْسِ قَليلْ

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: الضبط عند المبرد بضم الهمزة وكسر الباء، ورد عليه في ذلك كله بأنه لا يعرف في اللغة أصبر بمعنى صبر وإنما البيت أصبُرها بفتح الهمزة وضم الباء ماضيه صبر، ومنه المصبورة، وإنما يرد قول أبي العباس على معنى اجعلها ذات صبر.
وقوله تعالى: {ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق} الآية، المعنى ذلك الأمر أو الأمر ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق فكفروا به، والإشارة على هذا إلى وجوب النار لهم، ويحتمل أن يقدر فعلنا ذلك، ويحتمل أن يقدر وجب ذلك، ويكون {الكتاب} جملة القرآن على هذه التقديرات: وقيل: إن الإشارة ب {الكتاب} إلى قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم} [البقرة: 6]، أي وجبت لهم النار بما قد نزله الله في الكتاب من الخبر به، والإشارة بذلك على هذا إلى اشترائهم الضلالة بالهدى، أي ذلك بما سبق لهم في علم الله وورود إخباره به، و{الحق} معناه الواجب، ويحتمل أن يراد بالأخبار الحق: أي الصادقة.
و{الذين اختلفوا في الكتاب}، قال السدي: هم اليهود والنصارى لأن هؤلاء في شق وهؤلاء في شق.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر أن الشقاق سميت به المشارّة والمقاتلة ونحوه، لأن كل واحد يشق الوصل الذي بينه وبين مشاقّه، وقيل: إن المراد ب {الذين اختلفوا} كفار العرب لقول بعضهم هو سحر، وبعضهم هو أساطير، وبعضهم هو مفترى، إلى غير ذلك، وشقاق هذه الطوائف إنما هو مع الإسلام وأهله، و{بعيد} هنا معناه من الحق والاستقامة.
وقوله تعالى: {ليس البرُّ} الآية: قرأ أكثر السبعة برفع الراء، و{البرُّ} اسم ليس، قال أبو علي: ليس بمنزلة الفعل فالوجه أن يليها الفاعل ثم المفعول.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: مذهب أبي علي أن {ليس} حرف، والصواب الذي عليه الجمهور أنها فعل، وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص {ليس البرَّ} بنصب الراء، جعل {أن تولوا} بمنزلة المضمر، إذ لا يوصف كما لا يوصف المضمر، والمضمر أولى أن يكون اسماً يخبر عنه، وفي مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود {ليس البرّ بأن تولوا}، وقال الأعمش، إن في مصحف عبد الله: لا تحبسن البر، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: الخطاب بهذه الآية للمؤمنين، فالمعنى ليس البر الصلاة وحدها، وقال قتادة والربيع: الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي، فاليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى مطلع الشمس، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليها، وقرأ الجمهور {ولكن البر} والتقدير ولكن البر بر من، وقيل: التقدير ولكن ذو البر من، وقيل: {البر} بمنزلة اسم الفاعل تقديره ولكن البار من، والمصدر إذا أنزل منزلة اسم الفاعل فهو ولابد محمول على حذف مضاف، كقولك رجل عدل ورضى.
والإيمان التصديق، أي صدق بالله تعالى وبهذه الأمور كلها حسب مخبرات الشرائع.
وقوله تعالى: {وآتى المال على حبه} الآية، هذه كلها حقوق في المال سوى الزكاة، وبها كمال البر، وقيل هي الزكاة، و{آتى} معناه أعطى، والضمير في {حبه} عائد على {المال} فالمصدر مضاف إلى المفعول، ويجيء قوله: {على حبه} اعتراضاً بليغاً أثناء القول، ويحتمل أن يعود الضمير على الإيتاء أي في وقت حاجة من الناس وفاقة، فإيتاء المال حبيب إليهم، ويحتمل أن يعود على اسم الله تعالى من قوله: {من آمن بالله} أي من تصدق محبة في الله تعالى وطاعاته، ويحتمل أن يعود على الضمير المستكن في {آتى} أي على حبه المال، فالمصدر مضاف إلى الفاعل، والمعنى المقصود: أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو شحيح صحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى، كما قال صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: والشح في هذا الحديث هو الغريزي الذي في قوله تعالى: {وأحضرت الأنفس الشح} [النساء: 128]، وليس المعنى أن يكون المتصدق متصفاً بالشح الذي هو البخل، و{ذوي القربى} يراد به قرابة النسب.
واليتم في الآدميين من قبل الأب قبل البلوغ، وقال مجاهد وغيره: {ابن السبيل} المسافر لملازمته السبيل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كما يقال ابن ماء للطائر الملازم للماء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة ابن زنى» أي الملازم له، وقيل: لما كانت السبيل تبرزه شبه ذلك بالولادة فنسب إليها، وقال قتادة: {ابن السبيل} الضيف، والأول أعم، و{في الرقاب}: يراد به العتق وفك الأسرى وإعطاء أواخر الكتابات، و{إقام الصلاة} أتمها بشروطها، وذكر الزكاة هنا دليل على أن ما تقدم ليس بالزكاة المفروضة، و{الموفون} عطف على {من} في قوله: {من آمن}، ويحتمل أن يقدر وهم الموفون، و{الصابرين} نصب على المدح أو على إضمار فعل، وهذا مهيع في تكرار النعوت، وفي مصحف عبد الله بن مسعود {والموفين} على المدح أو على قطع النعوت، وقرأ يعقوب والأعمش والحسن {والموفون} {والصابرون} وقرأ الجحدري {بعهودهم}، و{البأساء} الفقر والفاقة، و{الضراء} المرض ومصائب البدن، و{حين البأس} وقت شدة القتال.
هذا قول المفسرين في الألفاظ الثلاثة، وتقول العرب: بئس الرجل إذا افتقر، وبؤس إذا شجع.
ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البرة بالصدق في أمورهم أي هم عند الظن بهم والرجاء فيهم كما تقول: صدقني المال وصدقني الربح، ومنه عود صدق، وتحتمل اللفظة أيضاً صدق الإخبار، ووصفهم الله تعالى بالتقى، والمعنى هم الذي جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية من العمل الصالح.

.تفسير الآيات (178- 180):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)}
{كتب} معناه فرض وأثبت، والكتب مستعمل في الأمور المخلدات الدائمة كثيراً، وقيل إن {كتب} في مثل هذا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء، وصورة فرض القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أرد الولي القتل الاستسلام لأمر الله والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليه وترك التعدي على غيره كما كانت العرب تتعدى وتقتل بقتيلها الرجل من قوم قاتله، وأن الحكام وأولي الأمر فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود، وليس القصاص بلزام إنما اللزام أن لا يتجاوز القصاص إلى اعتداء، فأما إذا وقع الرضى بدون القصاص من دية أو عفو فذاك مباح، فالآية معلمة أن القصاص هو الغاية عند التشاح، و{القصاص} مأخوذ من قص الأثر فكأن القاتل سلك طريقاً من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك، و{القتلى} جمع قتيل، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة وهو مما يدخل على الناس كرهاً فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقى.
واختلف في سبب هذه الآية، فقال الشعبي: إن العرب كان أهل العزة منهم والمنعة إذا قتل منهم عبد قتلوا به حراً، وإذاقتلت امرأة قتلوا بها ذكراً، فنزلت الآية في ذلك ليعم الله تعالى بالسوية ويذهب أمر الجاهلية، وحكي أن قوماً من العرب تقاتلوا قتال عمية ثم قال بعضهم: نقتل بعبيدنا أحراراً، فنزلت الآية، وقيل: نزلت بسبب قتال وقع بين قبيلتين من الأنصار، وقيل: من غيرهم فقتل هؤلاء من هؤلاء رجالاً وعبيداً ونساء، فأمر رسول الله صلى عليه وسلم أن يصلح بينهم ويقاصهم بعضهم ببعض بالديات على استواء الأحرار بالأحرار والنساء بالنساء والعبيد بالعبيد، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت مقتضية أن لا يقتل الرجل بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا يدخل صنف على صنف ثم نسخت بآية المائدة أن النفس بالنفس.
قال القاضي أبو محمد: هكذا روي، وآية المائدة إنما هي إخبار عما كتب على بني إسرائيل، فلا يترتب النسخ إلا بما تلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن حكمنا في شرعنا مثل حكمهم، وروي عن ابن عباس فيما ذكر أبو عبيد وعن غيره الآية محكمة وفيها إجمال فسرته آية المائدة، وأن قوله هنا {الحر بالحر} يعم الرجال والنساء، وقاله مجاهد.
وقال مالك رحمه الله: أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد بها الجنس الذكر والأنثى فيه سواء، وأعيد ذكر {الأنثى} تأكيداً وتهمماً بإذهاب أمر الجاهلية، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن الحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبداً أو عبد حراً أو ذكر أنثى أو أنثى ذكراً، وقالا: إنه إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية منه وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة، وإذا قتلت المرأة رجلاً فإن أراد أولياؤه قتلوا وأخذوا نصف الدية وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها، وإذا قتل الحر العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن علي رضي الله عنه وعن الحسن، وقد أنكر ذلك عنهما أيضاً، وأجمعت الأمة على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء، وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات، قال مالك والشافعي: وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس، وقال أبو حنيفة، لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس، وقال النخعي وقتادة وسعيد بن المسيب والشعبي والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف: يقتل الحر بالعبد، وقال مالك رحمه الله وجمهور من العلماء: لا يقتل الحر بالعبد، ودليلهم إجماع الأمة على أن العبد لا يقاوم الحر فيما دون النفس، فالنفس مقيسة على ذلك، وأيضاً فالإجماع فيمن قتل عبداً خطأً أنه ليس عليه إلا القيمة، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد، وأيضاً فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى، وإذا قتل الرجل ابنه فإن قصد إلى قتله مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره مما لا عذر له فيه لا شبهة في ادعاء الخطأ فإنه يقتل به قولاً واحداً في مذهب مالك، وإن قتله على حد ما يرمي أو يضرب فيقتله ففيه في المذهب قولان: يقتل به، ولا يقتل وتغلظ الدية.
وقوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء} فيه أربع تأويلات:
أحدها أن {من} يراد بها القاتل و{عفي} يتضمن عافياً هو ولي الدم والأخ هو المقتول، ويصح أن يكون هو الولي على هذا التأويل، وهي أخوة الإسلام، و{شيء} هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن عباس وجماعة من العلماء، والعفو في هذا القول على بابه والضميران راجعان على {من} في كل تأويل.
والتأويل الثاني وهو قول مالك: ان {من} يراد بها الولي، و{عفي} بمعنى يسر لا على بابها في العفو، والأخ يراد به القاتل، و{شيء} هي الدية، والأخوة على هذا أخوة الإسلام، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل المقتول أي يسر له من قبل أخيه المقتول وبسببه، فتكون الأخوة أخوة قرابة وإسلام، وعلى هذا التأويل قال مالك رحمه الله: إن الولي إذا جنح إلى العفو على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه فمرة تيسر ومرة لا تيسر، وغير مالك يقول: إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه، وقد روي أيضاً هذا القول عن مالك ورجحه كثير من أصحابه.
والتأويل الثالث أن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة حسبما ذكرناه آنفاً، فمعنى الآية فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، ويكون {عفي} بمعنى فضل من قولهم عفا الشيء إذا كثر أي أفضلت الحال له أو الحساب أو القدر.
والتأويل الرابع هو على قول علي رضي الله عنه والحسن بن أبي الحسن في الفضل بين دية المرأة والرجل والحر والعبد، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، و{عفي} في هذا الموضع أيضاً بمعنى أفضل، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع ثم الحكم إذا تداخلت، و{شيء} في هذه الآية مفعول لم يسم فاعله، وجاز ذلك و{عفي} لا يتعدى الماضي الذي بنيت منه من حيث يقدر {شيء} تقدير المصدر، كأن الكلام: عفي له من أخيه عفو، و{شيء} اسم عام لهذا وغيره، أو من حيث تقدر {عفي} بمعنى ترك فتعمل عملها، والأول أجود، وله نظائر في كتاب الله، منها قوله تعالى: {ولا تضرونه شيئاً} [هود: 57]، قال الأخفش: التقدير لا تضرونه ضراً، ومن ذلك قول أبي خراش: [الطويل]
فَعَادَيْتُ شَيْئاً والدَّرِيس كأنَّمَا ** يُزَعْزِعُهُ وِرْدٌ مِنَ الْمومِ مردمُ

وقوله تعالى: {فاتباع} رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره فالواجب والحكم اتباع، وهذا سبيل الواجبات كقوله تعالى {فإمساك بمعروف} [البقرة: 229]، وأما المندوب إليه فيأتي منصوباً كقوله تعالى {فضرب الرقاب} [محمد: 4]، وهذا الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب وحسن القضاء من المؤدي، وقرأ ابن أبي عبلة {فاتباعاً} بالنصب.
وقوله تعالى: {ذاك تخفيف من ربكم} إشارة إلى ما شرعه لهذه الأمة من أخذ الدية، وكانت بنو إسرائيل لا دية عندهم إنما هو القصاص فقط، والاعتداء المتوعد عليه في هذه الآية هو أن يأخذ الرجل دية وليه ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم واختلف في العذاب الأليم الذي يلحقه: فقال فريق من العلماء منهم مالك: هو كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه، وعذابه في الآخرة، وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: عذابه أن يقتل البتة ولايمكن الحاكم الولي من العفو، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الله: نقسم أن يعفي عن رجل عفا عن الدم وأخذ الدية ثم عدا فقتل، وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة، وقال عمر بن عبد العزيز أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى.
وقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} نحوه قول العرب في مثل: القتل أوقى للقتل، ويروى: أبقى، بباء وقاف.
ويروى أنفى بنون وفاء، والمعنى أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم به ازدجر من يريد قتل أحد مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معاً، وهذا الترتيب ما سبق لهما في الأزل، وأيضاً فكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعية إلى موت العدد الكثير، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به ووقف عنده وتركوا الاقتتال، فلهم في ذلك حياة، وخص {أولي الألباب} بالذكر تنبيهاً عليهم، لأنهم العارفون القابلون للأوامر والنواهي، وغيرهم تبع لهم، و{تتقون} معناه القتل فتسلمون من القصاص ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك فإن الله تعالى يثيب على الطاعة بالطاعة، وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي {ولكم في القصص} أي في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص وحكمه، ويحتمل أن يكون مصدراً كالقصاص، أي إنه قص أثر القاتل قصصاً فقتل كما قتل.
وقوله تعالى: {كتب عليكم} الآية، كأن الآية متصلة بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} فلذلك سقطت واو العطف، و{كتب} معناه فرض وأثبت، وقال بعض أهل العلم: الوصية فرض، وقال قوم: كانت فرضاً ونسخت، وقال فريق: هي مندوب إليها، و{كتب} عامل في رفع {الوصية} على المفعول الذي لم يسم فاعله في بعض التقديرات، وسقطت علامة التأنيث من {كتب} لطول الكلام فحسن سقوطها، وقد حكى سيبويه: قام امرأة، ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل، ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل {الوصية} في {إذا} لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو {الوصية}، وقد تقدمت فلا يجوز أن يعمل فيها متقدمة، ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون {كتب} هو العامل في {إذا} والمعنى توجه إيجاب الله عليكم ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجه الإيجاب ب {كتب} لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، و{الوصية} مفعول لم يسم فاعله ب {كتب} وجواب الشرطين {إذا} و{إن} مقدّر، يدل عليه ما تقدم من قوله: {كتب عليكم}، كما تقول شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا، ويتجه في إعرابها أن يكون التقدير: كتب عليكم الإيصاء، ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد هو العامل في {إذا}، وترتفع {الوصية} بالابتداء وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه: [البسيط]
مَنْ يَفْعَلِ الصَّالِحَاتِ اللَّهُ يَحْفظُهَا

أو يكون رفعها بالابتداء بتقدير: فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط، كأنه قيل: فالوصية للوالدين، ويتجه في إعرابها أن تكون {الوصية} مرتفعة ب {كتب} على المفعول الذي لم يسم فاعله، وتكون {الوصية} هي العامل في {إذا}، وهذا على مذهب أبي الحسن الأخفش فإنه يجيز أن يتقدم ما في الصلة الموصول بشرطين هما في هذه الآية، أحدهما أن يكون الموصول ليس بموصول محض بل يشبه الموصول، وذلك كالألف واللام حيث توصل، أو كالمصدر، وهذا في الآية مصدر وهو {الوصية}، والشرط الثاني أن يكون المتقدم ظرفاً فإن في الظرف يسهل الاتساع، و{إذا} ظرف وهذا هو رأي أبي الحسن في قول الشاعر: [الطويل]
تَقُولُ وَصَكَّتْ وَجْهَهَا بِيَمِينِهَا ** أبَعْلِيَ هذا بِالرَّحَا المُتَقَاعِس

فإنه يرى أن بالرحا متعلق بقوله المتقاعس، كأنه قال: أبَعلي هذا المتقاعس بالرحا، وجواب الشرطين في هذا القول كما ذكرناه في القول الأول، وفي قوله تعالى {إذا حضر} مجاز لأن المعنى إذا تخوف وحضرت علاماته، والخير في هذه الآية المال.
واختلف موجبو الوصية في القدر الذي تجب منه، فقال الزهري وغيره: تجب فيما قل وفيما كثر، وقال النخعي: تجب في خمسمائة درهم فصاعداً، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة: في ألف فصاعداً.
واختلف العلماء في هذه الآية، فقال فريق: محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين، وفي القرابة غير الوارثة، وقال ابن عباس والحسن وقتادة: الآية عامة وتقرر الحكم بها برهة ونسخ منها كل من يرث بآية الفرائض، وفي هذه العبارة يدخل قول ابن عباس والحسن وغيرهما إنه نسخ منها الوالدان وثبت الأقربون الذين لا يرثون، وبين أن آية الفرائض في سورة النساء ناسخة، لهذا الحديث المتواتر: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث».
وقال ابن عمر وابن عباس أيضاً وابن زيد: الآية كلها منسوخة وبقيت الوصية ندباً، ونحو هذا قول مالك رحمه الله، وقال الربيع بن خثيم وغيره: لا وصية لوارث، وقال عروة بن ثابت للربيع بن خثيم: أوصِ لي بمصحفك، فنظر الربيع إلى ولده وقرأ: {وأولو الأرحام بعضَهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأحزاب: 6]، ونحو هذا صنع ابن عمر رضي الله عنه.
وقال بعض أهل العلم: إن الناسخ لهذه الآية هي السنة المتواترة في الحديث المذكور قبل، وقد تقدم توجيه نسخ السنة للكتاب في تفسير قوله تعالى {ما ننسخ من آية} [البقرة: 106].
وقال قوم من العلماء: الوصية للقرابة أولى فإن كانت لأجنبي فمعهم ولا تجوز لغيرهم مع تركهم.
وقال الناس حين مات أبو العالية: عجباً له أعتقته امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم.
وقال الشعبي: لم يكن ذلك له ولا كرامة.
وقال طاوس: إذا أوصى لغير قرابة ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله وقاله جابر بن زيد.
وقال الحسن وجابر بن زيد أيضاً وعبد الملك بن يعلى: يبقى ثلث الوصية حيث جلعها ويرد ثلثاها إلى قرابته.
وقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء: الوصية ماضية حيث جعلها الميت، والأقربون: جمع أقرب، و{بالمعروف} معناه بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة ولا تبذير للوصية، و{حقاً} مصدر مؤكد، وخص المتقون بالذكر تشريفاً للرتبة ليتبادر الناس إليها.